العشرين من تشرين الأول مِن عام ألفين واثنان وعشرون ميلادي ..

أبصرَت عيُونِي التاريخ، ووطأت قدمَاي أعجُوبة العالم، وأبحَرت بِي رُوحِي في الزَّمان المنقضِي، وقُدِّرَ لي أن أرَى “آيا صوفيا” على أرضِ الواقع، ومِن جوفِهَا وبينمَا أنا أتلهف لأكتشف كل زاوية منها استحضَرتْ ذاكرتِي قولَ ابن بطوطة:

وبالفعل هي كذلك! إنها من أعظم الكنائس على مر العصُور! لا يُمكِنني وصف شُعور الدهشَة الذِي تجلى بداخِلي، بل ثَمَّة تعبير أرقى من الدهشة، اعترانِي ذهُول شديد وأنَا أحَدق بمبناها المهيب وجدرانها بلونها القرمزي الباهت ونوافذها الزجاجية الملونة، وحجر البازلت والجرانيت في جدرانِها، أمّا اللوحات والرُسومات الفسيفسَائية اللامعة، وسقفهَا العال وقبتهَا الشَامخة وكأنهَا مُعلقة في الهوَاء يمكنني القول إنهم مِن أروع ما أبصرتهُ عيناي إلى غاية هذَا اليوم.

في كلِ خطوة في أرجائها كنتُ أستنشِقُ عبق الماضِي، تحاملتُ على نفسِي، وقُلت بصوتٍ خافِت: سُبحان الخالِق! هل يُعقل أنّ عُمر هذَا المبنَى ألف وخمس مائة عام! كم مِن الحضارات وضعت بصمتهَا هُنا يا تُرى! كم من قدمٍ مشت في هذا الصرحَ العظيم! وأنَا أتأمل هذا الجمال، فُتح كتَاب الماضي، وحلقَ بي إلى قديم الزمَان قبل خمسة عشر قرنًا مِن الآن، وبالتحديد إلى حيثُ البداية… .

سُميت “آيا صوفيا” بهذَا الاسِم نسبة إلى قديسَة قبطية من مصر، ومعنَى اسمها “الحكمَة الإلهية” كانت تعبُد الأوثان، وتأثرت بالمسيحيَة واعتنقتهَا وتعمقت في العبَادة وطقُوسهَا حتَى أثرت في باقِي المسيحين، وصَل صيتُها الدينِي إلى أسماع الحاكم الروماني الوثني “أقلوديوس” الذي أمر بضربهَا وقتلهَا، وبذلك أصبَحت شهيدة الإيمان المسيحي، وفِي عام (360م) في عهد الإمبراطور البيزنطي “قسطنطين الأكبر” نُقِل جثمانهَا إلى القسطنطينية (إسطنبول حاليًا) حيثُ دُفنت هُناك، وبُنيت حوله كنيسَة ضخمة بالطراز البازيليكي الذي يرينا إبداع الفن المعماري البيزنطي، وبعد تزامن الأحداث، وعلى مرِ العصُور، وبعد الفتحِ الإسلامِي للقسطنطينية على يد “محمد الفاتح” حُولت هذه الكنيسة إلى مسجد، ورُفع الآذان فيهَا لأول مرة في التاريخ، وأقيمت فيه أول صلاة جُمعة.

وأنا أقلب صفحات التاريخ، وأغوص بين هذه الأحداث في ذاكرتِي رُفع آذان المغرب، وتردَّد صَدَاه في الآفاق، ليغسل درن النفس بكلماتٍ تطمئنُّ إليها الأرواح، وتتهادَى إليها الأسماع مُعلنةً أنه لا إله إلا الله، وأنه لا أكبر من الله، سكُون خيمَّ في أعماقِ قلبِي وأنا ألمح أفُول الشمس من خلفِ زجاجات النوافِذ، وهي تنسحب ببطءٍ مودّعةً النهار، ليُسدل الليل ستائره ويُقبل سَواده… .

أدركتُ لحظتهَا أنه إذا انتصف الليل اشتدت ظلمته، وبالرُغم مِن هذا الظلام الدامس، وإن طَال لا بد له أن ينجلِي، وللفجر أن ينبلج مشرقًا مسفرًا، وبالفعل أشرقت هذه الأعجوبَة بنور الإيمان، برغم ما مر عليها من حملات وحرُوب وتحولات تاريخية وما بين كنيسَة ومسجد ومتحف جَاء وعد الله، وأنارها الله بدين الحق.