{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِين} [الحجر ٩٧-٩٩]
{فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [ق ٣٩-٤٠]
الكلمِةُ الجَارحة، التي يطالُنا سُمَّها جميعًا في رحلةِ الحياةِ. تُخفِي وراءَها حقدًا وحسدًا دفينًا يطعَن القُلوبَ بسكينٍ مَسمومةً تُغمدُ في ثيابِ اللّسانِ، مُخلِّفةً وراءَها جروحًا غائرةً أشَّد مِن كَسر الحَجر وأنفَذ مِن وَخْزِ الإِبَر، وألمًا لا يندملُ بسهولةٍ، استنكَرها دينُنا الحنيف وحرَّمهَا، وبيَّن لنَا أنهَا ذنبٌ عَظِيم، مُنافٍ للدّين والمرُوءَة والآداب. ومتى خَرجت الكَلمة الجَارحة مِن الفم كَانت أعظمُ خَطرًا وأشدُّ أثرًا من جرحِ السيف، ولا سَبيل إلى اسِتردادها بعَد ذلك.
جراحاتُ السّنانِ لها التئامُ
ولا يُلْتامُ ما جَرَحَ اللسانُ
قَال بَعض الحُكمَاء:
"الأشرَار يتبعُون مسَاوِئ النَاس، ويَترُكون محَاسنَهم كمَا يَتبِعُ الذُباب المَواضِع الفَاسدِة".
فمَن كَان يخشَى خالقهُ ويخشَى أن تدورَ عليه العواقِبُ لا يتَتبع عَورات النَاس، وَيَحفظْ لِسَانهُ مِن الخَوض فِي أعرَاضهم، وعليه أن يُفكِر مليًا ويَتأمَّل جليًا ويتدبَّر فيمَا يُريد قَوله، ويتعهَّد لسَانه فيحرُص على اختيَار الألفَاظ والكَلِمات التِي لا يَندم عليها فيمَا بَعد. وقَد أخبرنَا الله عزَّ وجلَّ في آيتِه الكَريمة:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل ١٢٥]
وعن معاذ بن جبل – رضي الله عنه- قال: (كنت مع النبي ﷺ في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت: يا رسولَ اللهِ، أخبِرْني بعملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ، ويباعدني منَ النَّارِ، قال: … ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلِك كلِّه؟ قلتُ: بلَى، يا نبيَّ اللهِ، فأخذَ بلسانِهِ، وقال: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِعلَى وجوهِهِم، أوعلَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم) [رواه الترمذي]
ومعنَى الحَديث الشَريف : أنَّ ما يتلفَّظُ به المُؤمِن كالزَرع المَحصُود بِالمِنجَل، فكمَا أن المِنجل يقطَع ولا يُميز بين الرطِب واليَابس والجيِّد والرَديء، فكذلك ألسِنَة البَعض تتفَوه بكُل أنوَاع الكلاَم حسنًا وقبيحًا، والمعنى لا يكُبُّ الناسَ في النَّار إلا حصَائِدُ ألسِنتهم من الكُفر، والقَذف، والشَتم، والغِيبة، والنميمة، والبُهتان، ونحوِها.
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يَسْتَقيمُ إِيمانُ عبدٍ حتَّى يَستَقيمَ قلبُه، ولا يَسْتَقيمُ قلبُه حتَّى يَستَقيمَ لسانُه). [رواه أحمد]
أي أنَّه لا يستقيم الإيمان حتى يصلح القلب وأن نقص الإيمان ينتج عنه نقص الاستقامة، وأن تأثير اللسان على القلب حال استقامته أو فساده واضح، يعني من جاهد لسانه في الله، حتى لا يخرج من هذا اللسان إلا خيرا، ولا يخرج شرًا، فإنه قلبه يستقيم.
وأخبرنَا ابن القيم – رحمه الله – في كتابه الشهير – الداء والدواء – في هذا الباب قائلًا: (ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من الأكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك” يعني هذه تكون سهلة عليه، بعض الناس سهلة عليه “ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً، يزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع من الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول).
فلابد أنْ نُنصِتَ بِقلوبِنا لِمشاعر الآخرينَ، وأنْ نضعَ أنفسَنا مكانَهُمْ، فلا نَنطِقُ إلَّا بِما نَرْضَاهُ لنَفسِنا، ولا نَفْعَل إلَّا ما نَرْضَى أنْ يُفْعَلَ بِنا مُتفكِّرينَ: “هل نَرضى أنْ يُقالَ لنا هذا الكلامُ؟ هل نَقبَلُ أنْ نُعامَلَ هكذا؟” وهذا السلوكٌ يُجسِّدُ عبادةً عظيمةً عند الله تعالى. ورِقَّةُ القَلْبِ وَالتَّعاطُفُ معَ الآخرينَ واختيارِ الكلامِ الطيب الحَسن هِيَ أَسَاسُ الاحترامِ الحقيقيّ، وَهِيَ مِنْ أَجْمَلِ الصِّفاتِ وأنبَلها، فما أروع أن تكُون خَفيف الحضُور، ثَقيل الأثَر، جَميل السّتر، حَسن الخُلق، رحيمًا بِلسانِكَ، حرِيصًا على النّطقِ بالكلام الطيّب، فذلكَ خيرُ سبيلٍ لكسبِ محبّةِ اللهِ تعالى ثُم محَبة النَاسِ.
وعلى المُؤمِن العَاقِل أن لا تَستجِيب لإثارَات الجَاهلِين، حينمَا يَشْتمُونَه ويَسُبونَه وَيقُولُون فِيه مَا ليسَ فِيه، بَل يتسامى عَن الإنحدَار والإسفَاف إلى مُستوَى الجَهل والكلاَم السَيء. يَقُول الله تبَاركَ وتعَالى:
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِين} [القصص ٥٥]
{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامً} [الفرقان ٧٢]
{وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان ٦٣]
واللغو هو السَاقِط مِن القَول والمَقصُود بِه : “الشَتم والأذََى“.
وحتى تتصدى للكلمَة الجارحِة لك أن تتيقَن بأنهُ لا مَهرب مِن انتقادَات النَاس وكلامِهم الجَارِح، ومهما فَعلت لهُم مِن خيرٍ وإحسَان فلن تُرضِيهم، فأشرَف خلق الله الحبيب محمد – صلى الله عليه وسلم – لَم يسلَم مِن الكلاَم السيئ ومِن الغيبة ومن البُهتَان ومِن انتقَادَات الجَاهلين واتهامَاتهم الكَاذِبة، فلذا افعَل الخيرَ، ولا تخشَ من كلامَهم المسمُوم وأفعالهم المُؤذيَة اتجَاهك، افعل كل ما أمرَك به ربُّك من خيرٍ ومعرُوف وإحسَان للغَير، ولا تجعل الخَوف منهم ومِن انتقاداتِهم اللَاذِعة مانعًا لك، فكلامَهم لا يُقدم ولا يُؤخِر، ولا يُدخِل جنَّة ولا نارًا، ولا يُسمِن ولا يُغنِي مِن جُوع. كما يُقَال:
“من لا تهزُّه الكلمة لا يهزّه السيف”
انتهى ..