وَسط أيَّام تَتسَارع، وأزمِنة تَتَلاحقْ، يُعلمنَا الوقت بأنَّ مَوسِم الزَرع يكُون فِي هذه الدُنيا، وحَصادَه هنُاك في الآخِرة، والعَاقل وحدَه مَن عَرفَ قَدر نفسِه وقيمَة وقتِه، واستغِّله فِيما يُفيد به نفسَه ثُمَّ الأمَّة، فكيف يُريد الوَاحد منّا أن يصل دُون سَير، وأن يُنجز دُون حَركة، وأن َيبلغ المُراد بلا إرادَة!

شُعور أن يستَلقيَ العبدُ لمضجَعه، مُنهَك بالتعَب بَعد يَومٍ أمضاه مُتنَقِلاً مِن مَهمَةٍ إِلى أُخرَى، مُترَقِيًا سَلالِمَ الإِنجَازِ درَجةً درجَة، شُعورٌ لَطِيف، وشتَّان بينَه وبينَ مَن أمضاه فِي جوفِ الفَراغِ القَاتِل يتخبَّط بينَ سفَاسِف الأمُور بخفّة في العَقل وانحطَاطا في الهمَّة وذبولاً للعزيمَة، ووهِن فِي العزم وحجِبُ في القلب بأستار الغَمّ، وصيدًا سهلاً لمكائدِ الشيطان وقُرناء السوء … .

وكَم منَّا يعيشُ حياته كدُخانٍ كثيفٍ يُغْشِي العقلَ، ويُعمِي البصرَ عن رؤيةِ النورِ، يتخبّطُ في ظلماتِ اليأسِ والإحباطِ بلا أمل يحدُوه، ولا عمل يُشغَله، ولا رِساَلة يطمحُ لها، ويفنِي عمرهُ لإيصَالها، ففِي غيابِ الرؤيةِ الواضحةِ والأهدافِ الساميةِ، يُضلّ الإنسانُ في دروبِهِ.

وكان الأديب الشَّيخ عليٍّ الطَّنطاويِّ – رحمه الله – قد ذكَر في مُذكراته أنَّ الشَّيخ جمال الدِّين القاسميِّ قال: إنه مرَّ بشبابٍ يَلْهون ويُضيِّعون أوقاتَهم بالحرام، فقال: ليتَ أنَّ الوقتَ يُباع ويُشترى، لاشتريتُ منهم أوقاتَهم؛ تَحسُّرًا على ذَهاب وقت بعضِهم، دونَ أن يَستفيدَ منه، وتَمنِّيًا لكثرة أشغاله أنْ لو كان الوقتُ يُباع ويُشترى، لأشتري مِن هؤلاءِ وقتَهم!

ويُحدثنَا إمامُنا ابنُ الجَوزيِّ – رحمه الله – في كتابه الجميل صَيْد الخاطر بأنَّ هناك زُوَّارًا ثُقلاءَ كانوا يأتونه بكثرةٍ، ولم يستطعْ أنْ يُخرجَهم مِن بيته، فكان يُقطِّع الورق في ذاك الوقتِ الذي يأتيه فيه أولئك الثُّقلاء، ويَبري الأقلامَ، حتَّى إذا خرج الزُّوَّار شرع في التَّصنيف والتَّأليف، والكِتابة بأقلامِه بتلك الأوراق التي قطَّعها، فيكون قد استغلَّ وقتَه بما ينفعه فيما بعدُ.

الوَقت هُو فَحوَى هذهِ الحيَاة وَقيمتهَا، وأوْقاتنا هِي رَأس مَالنا فِي هذه الدنيا، فَمن فرَّط في وقتِه وعمُره قَد فرَّط فِي خَير كَبير، لمْ نُخلق للتنعُّم بنعيم الدنيا، فَمن خَسر وقتَه إنمٌا هو مَغبُون كالذِي يَبيعُ سلعتَه بأقلِّ ممَا تَستحِّق، أو يشترِيها بأكثر ممَا تستحِّق. وليسَ يتحسَّر أهل الجنَّة على شيء إلا على سَاعة مرّت بِهم لم يذكرُوا الله عزَّ وجلَّ فيها، ولم يعبؤوا لرصيدهم أكثر، وقد كان سلفنَا الصَالِح فيمَا مضَى يغتنمُون كُل جزء مِن أوقاتِهم بمَا يعُود عليهم، وعلى أُمتِّهم بالنَفع والخَير مِن عملٍ صالح، وعلمٍ نافعٍ.

ومِن أصدق ما رواهُ الشافعِي في أسُس التربية، هذه الكلمَة الرَائِعة:

وصـدقَ مـن قـال :

إنَّ اليوم الخَالي من ثغر عظيم تُكشِّر أنيابك عَليه، إنمَا هُو يوم ينقضِي في اللهوِ والعَبث، ويُمَل الكأسَ العمرية بآهاتٍ وحسراتٍ وندامَة

يُروى عن عمر بن الخطاب أنه قال : إني لأرى الرجل فيعجبني ، فإذا سألت عنه فقيل : لا حرفة له ، سقط من عيني، وفي الحديث : « إنَّ الله يحب المؤمن المحترف »

فلا جَرَم أَنَّ شعوبًا بأسرها تسقط من عين الله ، وتسقط من أعين أهل الجد والإنتاج لأنها لا عمل لها ، استهلكها الفراغ وأسلمها للفناء، وأترك الخاتمة للإمام ابن القيم الذي يقول: «وَقْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عُمُرُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ الْأَبَدِيَّةِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَمَادَّةُ مَعِيشَتِهِ الضَّنْكِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهُوَ يَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ. فمَا كَانَ مِنْ وَقْتِهِ للهِ وَبِاللهِ فَهُوَ حَيَاتُهُ وَعُمُرُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَيْسَ مَحْسُوبًا مِنْ حَيَاتِهِ، وَإِنْ عَاشَ فِيهِ عَيْشَ الْبَهَائِمِ، فَإِذَا قَطَعَ وَقْتَهُ فِي الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ وَالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ، وَكَانَ خَيْرَ مَا قَطَعَهُ بِهِ النَّوْمُ وَالْبَطَالَةُ؛ فَمَوْتُ هَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ حَيَاتِهِ».